الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
(وَلَا تغبنن) نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ غَبِنَ الشَّيْءُ وَفِيهِ كَفَرِحِ غَبْنًا وَغَبَنًا نَسِيَهُ أَوْ أَغْفَلَهُ أَوْ غَلِطَ فِيهِ , وَغَبَنَهُ فِي الْبَيْعِ يَغْبِنُهُ غَبْنًا وَيُحَرَّكُ أَوْ بِالتَّسْكِينِ فِي الْبَيْعِ , وَبِالتَّحْرِيكِ فِي الرَّأْي خَدَعَهُ . وَفِي الْمُطْلِعِ فِي خِيَارِ الْغَبَنِ قَالَ: الْغَبْنُ بِسُكُونِ الْبَاءِ مَصْدَرُ غَبَنَهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ يغبنه بِكَسْرِهَا إذَا نَقَصَهُ . وَيُقَالُ غَبِنَ رَأْيُهُ بِكَسْرِ الْبَاءِ أَيْ ضَعُفَ غَبَنًا بِالتَّحْرِيكِ انْتَهَى . (فِي الْغُمَّتَيْنِ) كَذَا رَأَيْته فِي النُّسَخِ غِذَاء الْمُعْجَمَةِ وَالْمِيمِ تَثْنِيَةُ غُمَّةٍ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَعَلَّهُ غِذَاء الْمُعْجَمَةِ الْمَضْمُومَةِ وَالنُّونِ وَالْمِيمِ تَثْنِيَةُ غنمة بِمَعْنَى غُنْمٌ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْفَيْءُ وَأَرَادَ بِهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ . هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ . وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا النِّعْمَتَيْنِ تَثْنِيَةُ نِعْمَةٍ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَوْ الصِّحَّةِ وَالْفَرَاغِ . . وَفِي الْحَدِيثِ " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما . وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله تعالى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ الْيَوْمُ ضَيْفُك , وَالضَّيْفُ مُرْتَحِلٌ يَحْمَدُك أَوْ يَذُمُّك , وَكَذَلِكَ لَيْلَتُك . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَكْرٍ غِذَاء أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَخْرَجَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الدُّنْيَا إلَّا يُنَادِي: ابْنَ آدَمَ اغتنمني لَعَلَّهُ لَا يَوْمَ لَك بَعْدِي , وَلَا لَيْلَةَ إلَّا تُنَادِي: ابْنَ آدَمَ اغتنمني لَعَلَّهُ لَا لَيْلَةَ لَك بَعْدِي . وَعَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اعْمَلُوا لِأَنْفُسِكُمْ رَحِمَكُمْ اللَّهُ فِي هَذَا اللَّيْلِ وَسَوَادِهِ فَإِنَّ الْمَغْبُونَ مَنْ غُبِنَ خَيْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ , وَالْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهُمَا , إنَّمَا جُعِلَا سَبِيلًا لِلْمُؤْمِنِينَ إلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ , وَوَبَالًا عَلَى الْآخَرِينَ لِلْغَفْلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ , فَأَحْيُوا لِلَّهِ أَنْفُسَكُمْ بِذِكْرِهِ فَإِنَّمَا تَحْيَا الْقُلُوبُ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . كَمْ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذَا اللَّيْلِ قَدْ اغْتَبَطَ بِقِيَامِهِ فِي ظُلْمَةِ حُفْرَتِهِ . وَكَمْ مِنْ نَائِمٍ فِي هَذَا اللَّيْلِ قَدْ نَدِمَ عَلَى طُولِ نَوْمِهِ عِنْدَمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِلْعَابِدِينَ غَدًا . فَاغْتَنِمُوا مَمَرَّ السَّاعَاتِ وَاللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ رَحِمَكُمْ اللَّهُ . وَعَنْ غِذَاء الطَّائِيِّ قَالَ: إنَّمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مَرَاحِلُ تَنْزِلُهَا النَّاسُ مَرْحَلَةً مَرْحَلَةً حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهِمْ ذَلِكَ إلَى آخِرِ سَفَرِهِمْ , فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تُقَدِّمَ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ زَادًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا فَافْعَلْ , فَإِنَّ انْقِطَاعَ السَّفَرِ عَنْ قَرِيبٍ مَا هُوَ , وَالْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ , فَتَزَوَّدْ لِسَفَرِك وَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ مِنْ أَمْرِك فَكَأَنَّك بِالْأَمْرِ قَدْ بغتك . وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا غِذَاء وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " اُطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ , وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ رَبِّكُمْ , فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٌ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ , وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ وَيُؤْمِنَّ رَوْعَاتِكُمْ " . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لَيْسَ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ إلَّا وَيُخْتَمُ عَلَيْهِ " . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ إلَّا يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ قَدْ دَخَلْت عَلَيْك الْيَوْمَ وَلَنْ أَرْجِعَ إلَيْك بَعْدَ الْيَوْمِ , فَانْظُرْ مَاذَا تَعْمَلُ فِيَّ , فَإِذَا انْقَضَى طَوَاهُ ثُمَّ يُخْتَمُ عَلَيْهِ فَلَا يَفُكُّ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَفُضُّ ذَلِكَ الْخَاتَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَيَقُولُ الْيَوْمُ حِينَ يَنْقَضِي: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَاحَنِي مِنْ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا . وَلَا لَيْلَةٌ تَدْخُلُ عَلَى النَّاسِ إلَّا قَالَتْ كَذَلِكَ . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دينار قَالَ: كَانَ عِيسَى يَقُولُ: إنَّ هَذَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِزَانَتَانِ فَانْظُرُوا مَا تَصْنَعُونَ فِيهِمَا . وَكَانَ يَقُولُ: اعْمَلُوا اللَّيْلَ لِمَا خُلِقَ لَهُ وَاعْمَلُوا النَّهَارَ لِمَا خُلِقَ لَهُ . وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ يَوْمٌ يَأْتِي مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إلَّا يَتَكَلَّمُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي يَوْمٌ جَدِيدٌ , وَإِنِّي عَلَى مَا يُعْمَلُ فِيَّ شَهِيدٌ , وَإِنِّي لَوْ قَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ لَمْ أَرْجِعْ إلَيْكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَإِيَّاكَ وَالْغَبَنَ وَالتَّمَادِي فِي الْكَسَلِ وَهَوَى النَّفْسِ (بَلْ اجْهَدْ) فِي فِكَاكِهَا وَخَلَاصِهَا مِنْ قُيُودِ الْأَقْفَاصِ . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ: الْإِنْسَانُ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ , لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ , يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَفِي لِسَانِهِ وَفِي جَوَارِحِهِ كُلِّهَا . تَجَهَّزِي بِجِهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا وَسَابِقِي بَغْتَةَ الْآجَالِ وَانْكَمِشِي قَبْلَ اللِّزَامِ فَلَا ملجا وَلَا غَوْثَا وَلَا تكدي لِمَنْ يَبْقَى وَتَفْتَقِرِي إنَّ الرَّدَى وَارِثُ الْبَاقِي وَمَا وُرِثَا وَاخْشَيْ حَوَادِثَ صَرْفِ الدَّهْرِ فِي مَهَلٍ وَاسْتَيْقِظِي لَا تَكُونِي كَاَلَّذِي بَحَثَا عَنْ مُدْيَةٍ كَانَ فِيهَا قَطْعُ مُدَّتِهِ فَوَافَتْ الْحَرْثَ مَحْرُوثًا كَمَا حَرَثَا مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ أَوْ الْغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعِثَا وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثَا فِي قَعْرِ مُوحِشَةٍ غَبْرَاءَ مُقْفِرَةٍ يُطِيلُ تَحْتَ الثَّرَى فِي جَوْفِهَا اللبثا فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى مَا فِيهِ خَلَاصُ نَفْسِهِ مِنْ الْهَلَاكِ , وَيَفُكُّهَا مِنْ الْقُيُودِ وَالشِّرَاكِ , وَلَا يَرْكَنُ إلَى الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا , وَلَا يَسْكُنُ إلَى تَخَيُّلَاتِهَا وَتَمْوِيهَاتِهَا , فَمَا هِيَ إلَّا سُمُّ الْأَفَاعِي , وَأَهْلُهَا مَا بَيْنَ مَنْعِيٍّ وَنَاعِي , فَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى: .
فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ (فَمَنْ) أَيْ أَيُّ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ أَوْ امْرَأَةٍ مُؤْمِنَةٍ (هَجَرَ اللَّذَّاتِ) أَيْ صَرَمَهَا وَلَمْ يَلْوِ إلَيْهَا عِنَانَهُ , وَلَمْ يَشْغَلْ بِهَا جَنَانَهُ , وَلَا لَطَّخَ بِهَا لِسَانَهُ , وَلَا نَافَسَ فِي اكْتِسَابِهَا , وَلَمْ يَنْكَبَّ عَلَى انْتِهَابِهَا . بَلْ رَفَضَهَا وَثَنَى عَنْهَا الْعِنَانَ , وَلَهَا شنى , وَمَالَ عَنْهَا وَانْحَنَى (نَالَ) أَيْ أَصَابَ (الْمُنَى) أَيْ مُنَاهُ بِمَعْنَى تمنيته يَعْنِي مَا يَتَمَنَّاهُ وَيَطْلُبُهُ مِنْ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ , فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالتَّكْرِيمِ , وَمِنْ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ , الْوَارِدَةِ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ , وَالصَّحَابَةِ الْأَخْيَارِ , وَالتَّابِعِينَ الْأَطْهَارِ , وَالْأَئِمَّةِ الْأَبْرَارِ . كُلُّ هَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِهَجْرِ اللَّذَّاتِ وَرَفْضِ الشَّهَوَاتِ . (وَمَنْ) أَيْ كُلُّ إنْسَانٍ (أَكَبَّ) أَيْ أَقْبَلَ (عَلَى اللَّذَّاتِ) الْمُحَرَّمَةِ , وَكَذَا الْمُبَاحَةِ الْمُشْغِلَةِ عَنْ الْعُلُومِ وَنَحْوِهَا , وَانْهَمَكَ فِي الشَّهَوَاتِ الْمُلْهِيَةِ عَنْ نَيْلِ غِذَاء (عَضَّ) بِأَسْنَانِهِ (عَلَى الْيَدِ) تَأَسُّفًا عَلَى مَا فَرَّطَ فِي أَيَّامِهِ , وَتَلَهُّفًا عَلَى مَا تَثَبَّطَ فِي دُهُورِهِ وَأَعْوَامِهِ , فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قوله تعالى فُلَانًا خَلِيلًا } وَاللَّذَّاتُ جَمْعُ لَذَّةٍ وَهِيَ نَقِيضُ الْأَلَمِ , يُقَالُ لَذَّهُ وَلَذَّ بِهِ لِذَاذًا وَلَذَاذَةً , وَالْتَذَّهُ وَالْتَذَّ بِهِ وَاسْتَلَذَّهُ وَجَدَهُ لَذِيذًا , وَلِذَا هُوَ صَارَ لَذِيذًا . وَرَوَى غِذَاء بِإِسْنَادٍ مُقَارِبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْجَسَدَ " . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ الضَّحَّاكِ مُرْسَلًا قَالَ " أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَزْهَدُ النَّاسِ؟ قَالَ مَنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبِلَى , وَتَرَك أَفْضَلَ زِينَةِ الدُّنْيَا , وَآثَرَ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى , وَلَمْ يَعُدَّ غَدًا فِي أَيَّامِهِ , وَعَدَّ نَفْسَهُ مِنْ الْمَوْتَى " . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إلَّا بَعَثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إلَّا الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى " . وَرَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَشْعَرِيِّينَ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " حُلْوَةُ الدُّنْيَا مَرَّةُ الْآخِرَةِ , وَمَرَّةُ الدُّنْيَا حُلْوَةُ الْآخِرَةِ " . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ " . وَرَوَاهُ غِذَاء وَأَبُو يَعْلَى وَإِسْنَادُهُمَا جَيِّدٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِلَفْظٍ " مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ جَائِعَانِ بَاتَا فِي ذريبة غَنَمٍ أَغْفَلَهَا أَهْلُهَا يَفْتَرِسَانِ وَيَأْكُلَانِ بِأَسْرَعَ فِيهَا فَسَادًا مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي دِينِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ " وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِنَحْوِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ , وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ " وَرَوَاهُ غِذَاء وَزَادَ " وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ " وَإِسْنَادُهُمَا جَيِّدٌ . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: اسْتَسْقَى عُمَرُ فَجِيءَ بِمَاءٍ قَدْ شِيبَ بِعَسَلٍ فَقَالَ إنَّهُ لَطَيِّبٌ لَكِنِّي أَسْمَعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَعَى عَلَى قَوْمٍ شَهَوَاتِهِمْ فَقَالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا فَلَمْ يَشْرَبْهُ ذَكَرَهُ رَزِينٌ , قَالَ الْحَافِظُ غِذَاء: وَلَمْ أَرَهُ . وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا وَلَا يُنَافِسُ فِي عِزِّهَا النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ , وَنَفْسُهُ مِنْهُ فِي شُغْلٍ . وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّجُلَ الْعَاقِلَ الْمُرَاقِبَ لَمْ يَقْصِدْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ التَّلَذُّذَ بَلْ دَفْعَ الْجُوعِ مِمَّا يُوَافِقُ بَدَنَهُ وَيُقَوِّيه عَلَى الطَّاعَةِ , فَإِنْ قَصَدَ الِالْتِذَاذَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُتَنَاوِلَاتِ أَحْيَانًا لَمْ يُعَبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ , وَإِنَّمَا يُعَابُ عَلَيْهِ الانهماك فِي ذَلِكَ , وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ (أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ) يَعْنِي أَقْبَلْ عَلَيْهَا بِكُلِّيَّةٍ , وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْإِيمَانِ , بَلْ شَأْنُهُمْ الْإِقْبَالَ عَلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ شُؤُونِهِمْ . وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ سُلَّمٌ يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى التَّقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ , فَإِذَا أَكَلُوا أَوْ شَرِبُوا أَوْ لَبِسُوا أَوْ نَكَحُوا أَوْ فَعَلُوا مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ شَيْئًا فَعَلُوهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ , وَإِذَا تَرَكُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ تَرَكُوهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , فَيَكُونُ فِعْلُهُمْ وَتَرْكُهُمْ عِبَادَةً , وَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضَعْفٍ . قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ إنَّهُ تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي " . . فَلَمَّا كَانَ الصِّيَامُ مُجَرَّدَ تَرْكِ حُظُوظِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي جُبِلَتْ عَلَى الْمِيلِ إلَيْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَضَافَهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ , مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ , وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُ تَرَك شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: طُوبَى لِمَنْ تَرَك شَهْوَةَ حَاضِرِهِ لِمَوْعِدٍ غُيِّبَ لَمْ يَرَهُ .
وَفِي التَّقَرُّبِ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَهَجْرِ اللَّذَّاتِ فَوَائِدُ: مِنْهَا كَسْرُ النَّفْسِ فَإِنَّ الِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ تَحْمِلُ النَّفْسَ عَلَى الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ وَالْغَفْلَةِ , وَمِنْهَا تخلي الْقَلْبِ لِلْفِكْرِ وَالذِّكْرِ , فَإِنَّ تَنَاوُلَ الشَّهَوَاتِ وَالِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ , قَدْ غِذَاء الْقَلْبَ وَيُعْمِيهِ وَيَحُولُ بَيْن الْعَبْدِ وَبَيْنَ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَيَسْتَدْعِي الْغَفْلَةَ , وَخُلُوَّ الْبَاطِنِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يُنَوِّرُ الْقَلْبَ وَيُوجِبُ رِقَّتَهُ وَيُزِيلُ قَسْوَتَهُ , وَمِنْهَا الِاشْتِغَالُ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا مِنْ دِرَاسَةِ الْعِلْمِ وَالْإِمْعَانِ فِي تفهمه وتعلمه وَتَعْلِيمِهِ , وَمِنْهَا الْإِعْرَاضُ وَالنَّزَاهَةُ عَنْ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إلَى النَّجَاسَةِ فَكُلَّمَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ حَمْلُهُ لِلنَّجَاسَةِ أَكْثَرُ , وَغَايَةُ الِالْتِذَاذِ بِذَلِكَ فِي مِقْدَارِ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ يَسْتَوِي طَيِّبُهُ وَخَبِيثُهُ . فَمَنْ رَاقَبَ هَذِهِ الْحَالَةَ تَرَكَ الِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ لَا مَحَالَةَ . . وَلَمَّا كَانَ فِي هَجْرِ اللَّذَّاتِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ قَمْعٌ لِلنَّفْسِ وَهَوَاهَا . قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى:
وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذُلٌّ سَرْمَدُ (وَفِي قَمْعِ) أَيْ صَرْفِ (أَهْوَاءِ) جَمْعُ هَوًى بِالْقَصْرِ مَيْلُ (النُّفُوسِ) إلَى الشَّيْءِ وَفِعْلُهُ هَوَى يَهْوَى هَوًى مِثْلُ عَمِي يَعْمَى عَمًى , وَأَمَّا هَوًى بِالْفَتْحِ فَهُوَ السُّقُوطُ وَمَصْدَرُهُ الْهُوِيُّ بِالضَّمِّ , وَيُطْلَقُ الْهَوَى عَلَى نَفْسِ الْمَحْبُوبِ . قَالَ الشَّاعِرُ: إنَّ الَّتِي زَعَمْت فُؤَادَك مَلَّهَا خَلَقَتْ هَوَاك كَمَا خَلَقَتْ هَوًى لَهَا وَيُقَالُ هَذَا هَوَى فُلَانٍ وَفُلَانَةُ هَوَاهُ أَيْ مُهْوِيَتُهُ وَمَحْبُوبَتُهُ , وَقَالَ الشَّاعِرُ: هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ اليمانين مُصْعِدٌ جَنُوبًا وَجُثْمَانِي بِمَكَّةَ مُوثَقُ وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُبِّ الْمَذْمُومِ , كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُقَالُ قَمَعَهُ غِذَاء ضَرَبَهُ بِالْمِقْمَعَةِ وَقَهَرَهُ وَذَلَّلَهُ كأقمعه . وَيُقَالُ عَزَّ عِزًّا وَعِزَّةً بِكَسْرِهِمَا وَعِزَازَةً صَارَ عَزِيزًا كتعزز وَقَوِيَ بَعْدَ ذُلِّهِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عِدَّةُ آيَاتٍ فِي ذَمِّ الْهَوَى كَقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَفْتَقِرُ إلَى تَرْكِهِ فِي أَوْقَاتٍ لِئَلَّا يَحْمِلَ إلَى مَا يُؤْذِي , وَالْكُلُّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِيَاضَةٍ ; وَالْآدَمِيُّ كَالْفَرَسِ إذَا أَنْتَجَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَائِضٍ , فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا حَرَّكَتْ الرِّيَاضَةُ أَصْلَهُ الْجَيِّدَ فَظَهَرَ جَوْهَرُهُ , كَمَا أَنَّ الْمَسَّ يُؤَثِّرُ فِي الْفُولَاذِ , وَإِنْ كَانَ كوذنا مَنَعَتْ بَعْضُ أَخْلَاقِهِ الرَّدِيئَةِ , كَمَا أَنَّ الْحَدِيدَ قَدْ يُقْطَعُ , وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ , فَمِنْهُمْ مَنْ خُلِقَ عَلَى صِفَةٍ حَسَنَةٍ تُؤَدِّبُهُ نَفْسُهُ وَيُقَوِّمُهُ عَقْلُهُ , فَتَأْتِي الرِّيَاضَةُ بِتَمَامِ التَّقْوِيمِ وَكَمَالِ التَّعْلِيمِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ ذَلِكَ فِي جَوْهَرِهِ فَيَفْتَقِرُ إلَى زِيَادَةِ رِيَاضَةٍ , وَيَتْرُكُ الْمَحْبُوبَاتِ عَلَى كُرْهٍ , وَلَا بُدَّ مِنْ رِيَاضَةِ هَذَا لِيُفَارِقَ الْمُؤْذِيَ كَيْفَ اتَّفَقَ . وَالرِّيَاضَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ , فَتُؤَثِّرَ فِي حَقِّ الشَّرَهِ تَقْلِيلُ الْمَطْعَمِ إلَى أَنْ يَعُودَ إلَى حَالَةِ الِاعْتِدَالِ , وَأَخْذِ مَا يَصْلُحُ , وَلَا بُدَّ مِنْ إعْطَاءِ النَّفْسِ مَا يُوَافِقُهَا فِي مَصَالِحِهَا , فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام " إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا " وَكَذَلِكَ الشَّرَهُ فِي النِّكَاحِ وَجَمْعِ الْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ نَرُدُّهُ بِالرِّيَاضَةِ عَمَّا يُؤْذِي , وَنَأْمُرُ الْمُتَكَبِّرَ بِالتَّوَاضُعِ , وَنَأْمُرُ السَّيْءَ الْخُلُقَ بِالِاحْتِمَالِ وَالصَّفْحِ , وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ . وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ: الْهَوَى مَيْلُ النَّفْسِ إلَى مَا يُلَائِمُهَا , وَهَذَا الْمَيْلُ خُلِقَ فِي الْإِنْسَانِ لِضَرُورَةِ بَقَائِهِ , فَإِنَّهُ لَوْلَا مَيْلُهُ إلَى الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمُنْكَحِ مَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ وَلَا نَكَحَ . فَالْهَوَى سَاحِبٌ لَهُ لِمَا يُرِيدُهُ , كَمَا أَنَّ الْغَضَبَ دَافِعٌ عَنْهُ مَا يُؤْذِيه , فَلَا يَنْبَغِي ذَمُّ الْهَوَى مُطْلَقًا وَلَا مَدْحُهُ مُطْلَقًا , وَإِنَّمَا يُذَمُّ الْمُفْرِطُ مِنْ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ . وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ مِمَّنْ يُطِيعُ هَوَاهُ وَشَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ أَنَّهُ لَا يَقِفُ فِيهِ عَلَى حَدِّ الْمُنْتَفِعِ بِهِ , أَطْلَقَ ذَمَّ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ لِعُمُومِ غَلَبَةِ الضَّرَرِ ; لِأَنَّهُ يَنْدُرُ مَنْ يَقْصِدُ الْعَدْلَ فِي ذَلِكَ وَيَقِفُ عِنْدَهُ , كَمَا أَنَّهُ يَنْدُرُ فِي الْأَمْزِجَةِ الْمِزَاجُ الْمُعْتَدِلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَلَبَةِ أَحَدِ الْأَخْلَاطِ وَالْكَيْفِيَّاتِ عَلَيْهِ , فَحِرْصُ النَّاصِحِ عَلَى تَعْدِيلِ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَحِرْصِ الطَّبِيبِ عَلَى تَعْدِيلِ الْمِزَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , وَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَذَّرُ وُجُودُهُ إلَّا فِي حَقِّ أَفْرَادٍ مِنْ الْعَالَمِ , فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إلَّا ذَمَّهُ , وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ لَمْ غِذَاء إلَّا مَذْمُومًا إلَّا مَا جَاءَ مِنْهُ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ " . وَتَقَدَّمَ التَّنْصِيصُ عَلَى هَذَا , وَقَدْ قِيلَ: الْهَوَى كَمِينٌ لَا يُؤْمَنُ وَمُطْلِقُهُ يَدْعُو اللَّذَّةَ الْحَاضِرَةَ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ فِي الْعَاقِبَةِ , وَيَحْثُ عَلَى نَيْلِ الشَّهَوَاتِ عَاجِلًا , وَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا لِأَعْظَمِ الْآلَامِ أَجْلًا وَرُبَّمَا يَكُونُ عَاجِلًا أَيْضًا . فَالْهَوَى وَالنَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ وَالدُّنْيَا يَدْعُونَ إلَى مَا فِيهِ الْبَوَارُ . وَيُعْمِينَ عَيْنَ الْبَصِيرَةِ عَنْ النَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ وَمَا يُغْضِبُ وَيُرْضِي الْجَبَّارَ . وَالدِّينُ وَالْمُرُوءَةُ وَالْعَقْلُ وَالرُّوحُ يَنْهَيْنَ عَنْ لَذَّةٍ تَعْقُبُ أَلَمًا , وَشَهْوَةً تُورِثُ نَدَمًا . وَلَمَّا اُبْتُلِيَ الْمُكَلَّفُ وَامْتُحِنَ بِالْهَوَى مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبَهَائِمِ , وَكَانَ كُلُّ وَقْتٍ تَحْدُثُ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ جُعِلَ فِيهِ حَاكِمَانِ حَاكِمُ الْعَقْلِ وَحَاكِمُ الدِّينِ . . وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَمَرَّنَ عَلَى دَفْعِ الْهَوَى الْمَأْمُونِ الْعَوَاقِبِ , لِيَتَمَرَّنَ بِذَلِكَ عَلَى تَرْكِ مَا تُؤْذِي عَوَاقِبُهُ . وَلِيَعْلَمَ اللَّبِيبُ أَنَّ مُدْمِنِي الشَّهَوَاتِ يَصِيرُونَ إلَى حَالَةٍ لَا يَلْتَذُّونَ بِهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَرْكَهَا , لِأَنَّهَا صَارَتْ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْشِ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ . وَلِيَعْلَمَ الْعَاقِلُ الْمُؤْمِنُ أَنَّ الْهَوَى حِظَارُ جَهَنَّمَ الْمُحِيطُ بِهَا حَوْلَهَا , فَمَنْ وَقَعَ فِيهِ وَقَعَ فِيهَا , كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ " حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ , وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ " . . وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ أَرْسَلَ إلَيْهَا جِبْرِيلُ فَقَالَ اُنْظُرْ إلَيْهَا , وَإِلَى مَا أَعْدَدْت لِأَهْلِهَا فِيهَا , فَجَاءَ فَنَظَرَ إلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا , فَرَجَعَ إلَيْهِ وَقَالَ وَعِزَّتُك لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ عِبَادِك إلَّا دَخَلَهَا , فَأَمَرَ بِهَا فَحُجِبَتْ بِالْمَكَارِهِ , وَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهَا فَانْظُرْ إلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُجِبَتْ بِالْمَكَارِهِ , فَقَالَ وَعِزَّتُك لَقَدْ خَشِيت أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ . قَالَ: اذْهَبْ إلَى النَّارِ فَانْظُرْ إلَيْهَا , وَإِلَى مَا أَعْدَدْت لِأَهْلِهَا فِيهَا , فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا , فَرَجَعَ إلَيْهِ فَقَالَ: وَعِزَّتُك لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا , فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ , فَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهَا , فَرَجَعَ إلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ , فَرَجَعَ إلَيْهِ وَقَالَ: وَعِزَّتُك لَقَدْ خَشِيت أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ " أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ شَهَوَاتُ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ وَمُضِلَّاتِ الْهَوَى " . وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ هَوًى مُتَّبَعًا . قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: مُخَالَفَةُ الْهَوَى تُورِثُ الْعَبْدَ قُوَّةً فِي بَدَنِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الْغَالِبُ لِهَوَاهُ أَشَدُّ مِنْ الَّذِي يَفْتَحُ الْمَدِينَةَ وَحْدَهُ . . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْفُوعِ " لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ , وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " . وَكُلَّمَا تَمَرَّنَ عَلَى مُخَالَفَةِ هَوَاهُ اكْتَسَبَ قُوَّةً عَلَى قُوَّتِهِ , وَبِمُخَالَفَتِهِ لِهَوَاهُ تَعْظُمُ حُرْمَتُهُ وَتَغْزُرُ مُرُوءَتُهُ . قَالَ مُعَاوِيَةُ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ: الْمُرُوءَةُ تَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَعِصْيَانُ الْهَوَى . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إذَا أَشْكَلَ عَلَيْك أَمْرٌ أَنْ لَا تَدْرِيَ أَيَّهمَا أَرْشَدُ فَخَالِفْ أَقْرَبَهُمَا مِنْ هَوَاك , فَإِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْخَطَأُ فِي مُتَابَعَةِ الْهَوَى . وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ: الْبَلَاءُ كُلُّهُ فِي هَوَاك . وَالشِّفَاءُ كُلُّهُ فِي مُخَالَفَتِك إيَّاهُ . . وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رحمه الله: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ جِهَادُك هَوَاك . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَسَمِعْت شَيْخَنَا يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ غِذَاء رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: جِهَادُ النَّفْسِ وَالْهَوَى أَصْلُ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ , فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى جِهَادِهِمْ حَتَّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ وَهَوَاهُ أَوَّلًا حَتَّى يَخْرُجَ إلَيْهِمْ , فَمَنْ قَهَرَ هَوَاهُ عَزَّ وَسَادَ , وَمَنْ قَهَرَهُ هَوَاهُ ذَلَّ وَهَانَ وَهَلَكَ وَبَادَ . وَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله: .
(وَفِي نَيْلِهَا) أَيْ النُّفُوسِ (مَا) أَيْ الَّذِي (تَشْتَهِي) أَيْ تَشْتَهِيه وَتَطْلُبُهُ وَتَهْوَاهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَنَحْوِهَا (ذُلٌّ سَرْمَدُ) أَيْ طَوِيلٌ مُسْتَمِرٌّ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: السَّرْمَدُ الدَّائِمُ وَالطَّوِيلُ مِنْ اللَّيَالِي , وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يَدْعُو لِمَا فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَرِضَا الشَّيْطَانِ وَجُنُودِهِ , فَقَدْ أَغْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ أَبْوَابَ التَّوْفِيقِ وَفَتَحَ عَلَيْهِ أَبْوَابَ الْخِذْلَانِ . قَالَ غِذَاء بْنُ عِيَاضٍ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ: مَنْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الْهَوَى وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ مَوَادُّ التَّوْفِيقِ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْكُفْرُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: فِي الْغَضَبِ , وَالشَّهْوَةِ , وَالرَّغْبَةِ , وَالرَّهْبَةِ , ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت مِنْهُنَّ اثْنَتَيْنِ رَجُلًا غَضِبَ فَقَتَلَ أُمَّهُ , وَرَجُلًا عَشِقَ فَتَنَصَّرَ . وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ فَمَشَى إلَى جَانِبِهَا ثُمَّ قَالَ: أَهْوَى هَوَى الدِّينِ وَاللَّذَّاتُ تُعْجِبُنِي فَكَيْفَ لِي بِهَوَى اللَّذَّاتِ وَالدِّينِ؟ فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: دَعْ أَحَدَهُمَا تَنَلْ الْآخَرَ . وَفِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ لِلْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ: لِكُلِّ عَبْدٍ بِدَايَةٌ وَنِهَايَةٌ , فَمَنْ كَانَتْ بِدَايَتُهُ اتِّبَاعُ الْهَوَى كَانَتْ نِهَايَتُهُ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْحِرْمَانُ وَالْبَلَاءُ الْمَتْبُوعُ بِحَسَبِ مَا اتَّبَعَ مِنْ هَوَاهُ , بَلْ يَصِيرُ لَهُ ذَلِكَ فِي نِهَايَتِهِ عَذَابًا يُعَذَّبُ بِهِ فِي قَلْبِهِ كَمَا قِيلَ: مَآرِبُ كَانَتْ فِي الشَّبَابِ لِأَهْلِهَا عِذَابًا فَصَارَتْ فِي الْمَشِيبِ عَذَابَا فَلَوْ تَأَمَّلْت حَالَ كُلِّ ذِي حَالٍ شِينَةٍ زرية لَرَأَيْت بِدَايَتَهُ الذَّهَابُ مَعَ هَوَاهُ وَإِيثَارُهُ عَلَى عَقْلِهِ . وَمَنْ كَانَتْ بِدَايَتُهُ مُخَالَفَةَ هَوَاهُ وَطَاعَةُ دَاعِي رُشْدِهِ كَانَتْ نِهَايَتُهُ الْعِزَّ وَالشَّرَفَ وَالْغِنَى وَالْجَاهَ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ . وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: مَنْ مَلَكَ شَهْوَتَهُ فِي حَالِ شَبِيبَتِهِ أَعَزَّهُ اللَّهُ فِي حَالِ كهوليته . وَقِيلَ لِلْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صفرة: بِمَ نِلْت مَا نِلْت؟ قَالَ: بِطَاعَةِ الْحَزْمِ وَعِصْيَانِ الْهَوَى . فَهَذَا فِي بِدَايَةِ الدُّنْيَا وَنِهَايَتِهَا . . وَأَمَّا الْآخِرَةُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجَنَّةَ نِهَايَةَ مَنْ نَهَى نَفْسَهُ عَنْ هَوَاهُ , وَالنَّارَ نِهَايَةَ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: رَأَيْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك؟ قَالَ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنْ وضعت فِي لَحْدِي حَتَّى وَقَفْت بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى فَحَاسَبَنِي حِسَابًا يَسِيرًا ثُمَّ أَمَرَ بِي إلَى الْجَنَّةِ , فَبَيْنَمَا أَنَا أَدُورُ بَيْنَ أَشْجَارِهَا وَأَنْهَارِهَا لَا أَسْمَعُ حِسًّا وَلَا حَرَكَةً إذْ سَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ , فَقَالَ: تَحْفَظُ أَنَّك آثَرْت اللَّهَ عَلَى هَوَاك يَوْمًا؟ قُلْت: إي وَاَللَّهِ , فَأَخَذَنِي النِّثَارُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مُخَالَفَةُ الْهَوَى تُوجِبُ شَرَفَ الدِّينِ وَشَرَفَ الْآخِرَةِ وَعِزَّ الظَّاهِرِ وَعِزَّ الْبَاطِنِ , وَمُتَابَعَتُهُ تَضَعُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , وَتُذِلُّهُ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ . وَذَكَرَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا بِسَنَدِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّادٍ عَنْ الزُّبَيْرِ: إذَا الْمَرْءُ أَعْطَى نَفْسَهُ كُلَّمَا اشْتَهَتْ وَلَمْ يَنْهَهَا تَاقَتْ إلَى كُلِّ بَاطِلِ وَسَاقَتْ إلَيْهِ الْإِثْمَ وَالْعَارَ لِلَّذِي دَعَتْهُ إلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ عَاجِلِ وَلِأَبِي إسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: إذَا حَدَّثَتْك النَّفْسُ يَوْمًا بِشَهْوَةٍ وَكَانَ عَلَيْهَا لِلْخِلَافِ طَرِيقٌ فَخَالِفْ هَوَاهَا مَا اسْتَطَعْت فَإِنَّمَا هَوَاهَا عَدُوٌّ وَالْخِلَافُ صديق وَإِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ نَادَى مُنَادٍ ليعلمن أَهْلُ الْجَمْعِ مِنْ أَهْلِ الْكَرَمِ الْيَوْمَ أَلَا لِيَقُمْ الْمُتَّقُونَ , فَيَقُومُونَ إلَى مَحَلِّ الْكَرَامَةِ " وَأَمَّا الْمُتَّبِعُونَ لِهَوَاهُمْ ناكسوا رُءُوسِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ فِي حَرِّ الْهَوَى وَعَرَقِهِ وَأَلَمِهِ وَحَرْقِهِ , وَأُولَئِكَ فِي ظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ لَا حَرَّ وَلَا ذُلَّ وَلَا هَوَانَ . فَإِذًا عَلِمْت هَذَا . .
فَلَا تَشْتَغِلْ إلَّا بِمَا يُكْسِبُ الْعُلَا وَلَا تَرْضَ لِلنَّفْسِ النَّفِيسَةِ بِالرَّدِي (فَلَا تَشْتَغِلْ) بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْغَالِ (إلَّا بِمَا) أَيْ بِشُغْلٍ (يُكْسِبُ الْعُلَا) مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ وَمَفَاخِرِ الرُّتَبِ (وَلَا تَرْضَ لِلنَّفْسِ النَّفِيسَةِ) الْمَرْغُوبِ فِيهَا لَا عَنْهَا (بِ) الْفِعْلِ (الرَّدِي) أَيْ الْمُرْدِي لَهَا أَوْ الْفِعْلِ الَّذِي يُؤَدِّيهَا إلَى الرَّدِي وَالْهَلَاكِ , فَإِنَّ هَذَا لَا يَفْعَلُهُ صَدِيقٌ بِصَدِيقِهِ وَلَا رَفِيقٌ بِرَفِيقِهِ , وَالنَّفْسُ عِنْدَك وَدِيعَةٌ أُودِعْتهَا , وَحَفِيظَةٌ اُسْتُحْفِظْتهَا , فَلَا تَذْهَبْ بِهَا إلَى الْهَلَكَاتِ , وَلَا تُلْقِهَا فِي غِذَاء التَّلِفَاتِ , وَإِذَا كُنْت لَا تَنْصَحُ نَفْسَك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك , وَتُرَاقِبُ فِيهَا الرَّبَّ الْمُهَيْمِنَ عَلَيْك , فَيَا طُولَ دَمَارِك , وَيَا أَسَفِي عَلَيْك . فَمَنْ لَا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ , كَيْفَ يَنْصَحُ لِأَبْنَاءِ جِنْسِهِ , مِنْ وَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ وَحَوَاشِيهِ وَعُرْسِهِ . ثُمَّ ذَكَرَ النَّاظِمُ أَشْيَاءَ مِنْ فَضْلِ الْعُزْلَةِ عَنْ النَّاسِ فَقَالَ:
وَفِي خَلْوَةِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ أُنْسُهُ وَيَسْلَمُ دِينُ الْمَرْءِ عِنْدَ التَّوَحُّدِ (وَفِي خَلْوَةِ) أَيْ انْفِرَادِ (الْإِنْسَانِ) عَنْ النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ وشؤونهم (بِ) مُطَالَعَةِ كُتُبِ (الْعِلْمِ) مِنْ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَسِيرَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالتَّفَهُّمِ فِي ذَلِكَ , وَتَتَبُّعِ أَيَّامِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْوَالِهِ وشؤونه " وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ . وَالتَّخَلُّقِ بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْ أَخْلَاقِهِ , وَذِكْرِ غَزَوَاتِهِ وَسَرَايَاهُ وَمُكَاتَبَاتِهِ , وَالْوُفُودِ الَّذِينَ كَانُوا يَفِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ , وَمُطَالَعَةِ كُتُبِ الرَّقَائِقِ وَالْوَعْظِ وَذَمِّ الدُّنْيَا وَالِاحْتِفَالِ بِهَا وَالرِّضَا عَنْ النَّفْسِ , وَمُطَالَعَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَكُتُبِ النَّحْوِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْآلَاتِ , فَمُطَالَعَةُ الْمَرْءِ لِهَذِهِ الْعُلُومِ وَالْخَلْوَةُ بِهَا (أُنْسُهُ) فِي خَلْوَتِهِ وَوَحَدَتِهِ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْأُنْسُ بِالضَّمِّ وَبِالتَّحْرِيكِ وَالْأَنَسَةُ مُحَرَّكَةٌ ضِدَّ الْوَحْشَةِ , وَقَدْ أَنِسَ بِهِ بِتَثْلِيثِ النُّونِ وَآنَسَهُ ضِدُّ أَوْحَشَهُ , وَآنَسَ الشَّيْءَ أَبْصَرَهُ . فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ مَنَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَرَفًا صَالِحًا مِنْ الْعُلُومِ وَانْفَرَدَ بِهَا عَنْ أَبْنَاءِ زَمَانِهِ فِي خَلْوَتِهِ لَمْ يَسْتَوْحِشْ أَبَدًا . كَيْفَ وَهُوَ يَمُرُّ عَلَى أَخْبَارِ الْأَوَائِلِ وَأَيَّامِهِمْ , وَيَطَّلِعُ عَلَى غِذَاء وَأَحْوَالِهِمْ , وَيَظْهَرُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَكَلَامِهِمْ , وَنَثْرِهِمْ وَنِظَامِهِمْ , وَكَرَمِهِمْ وَقِتَالِهِمْ , وَهِمَمِهِمْ وَنَكَالِهِمْ , وَإِقْدَامِهِمْ وَإِحْجَامِهِمْ , وَإِحْلَالِهِمْ وَإِبْرَامِهِمْ , وَكُفْرِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ , وَأَدْيَانِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ , وَحِلْمِ الرُّسُلِ وَعَزْمِهِمْ , وَسَعَةِ أَخْلَاقِهِمْ وَحَزْمِهِمْ , وَعَفْوِهِمْ وَصَبْرِهِمْ , وَتَضَرُّعِهِمْ إلَى الْحَقِّ وَذِكْرِهِمْ , حَتَّى إذَا انْتَهَيْت إلَى سِيرَةِ الْخَاتَمِ لِلرِّسَالَةِ وَالْقَامِعِ لِلْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ , كُنْت كَأَنَّك بَيْنَ أَظْهُرِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ الَّذِينَ قَشَعَ اللَّهُ بِهِمْ الْكُفْرَ وَأَبَادَهُ , وَنَصَرَ بِهِمْ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلَكَ أَضْدَادَهُ , فَتَارَةً تَفْرَحُ وَأُخْرَى تَبْكِي , وَرَأَيْت وَقَعَاتِهِمْ وَاحِدَةٌ تَشْرَحُ وَأُخْرَى تَنْكِي فَمَنْ كَانَ فِي خَلْوَتِهِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ , كَيْفَ لَا تُفَارِقُهُ الْوَحْشَةُ وَالْكَآبَةُ , وَيَصْحَبُهُ الْأُنْسُ وَالسُّرُورُ وَالْمَهَابَةُ , مَعَ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ , وَالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ , وَسِيَرِ الْمُلُوكِ والدول , وَأَخْبَارِ الْأَحْبَارِ وَالْأُوَلِ , وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ , وَالْمَقَالَاتِ وَالنِّحَلِ , وَأَهْلِ التَّقْوَى وَالْخُشُوعِ , وَالطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ , وَالظَّلَمَةِ وَالْجَبَابِرَةِ , وَالْأَكَاسِرَةِ وَالْقَيَاصِرَةِ , فَكُلُّ هَذَا يَأْنَسُ بِهِ فِي خَلْوَتِهِ , وَيَسْكُنُ إلَيْهِ فِي وَحْدَتِهِ (وَيَسْلَمُ دِينُ الْمَرْءِ) الْمُخْتَلِي مِنْ شَائِبَةِ الرِّيَاءِ وَمُقَارَفَةِ الْأَذَى (عِنْدَ التَّوَحُّدِ) وَالِانْفِرَادِ , وَالْعُزْلَةِ عَنْ الْعِبَادِ . وَمَنْ سَلِمَ دِينُهُ فَقَدْ حَصَلَ عَلَى غَايَةِ الْمُرَادِ , وَسَعِدَ كُلَّ الْإِسْعَادِ . وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الْخَلْوَةَ عَنْ الْخَلْقِ إنَّمَا تُمْدَحُ لِمَنْ أَتْقَنَ أَمْرَ دِينِهِ , وَعَلِمَ مِنْ الْعُلُومِ مَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ , وَعَرَفَ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ وَالْمَكْرُوهَ وَالْمَحْظُورَ , وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ وَيَجُوزُ , وَمَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ جَلَّ شَأْنُهُ وَتَعَالَى سُلْطَانُهُ , وَكَذَا الرُّسُلُ عليهم الصلاة والسلام . وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ فَحْوَى كَلَامِ النَّاظِمِ حَيْثُ إنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْمُخْتَلِي قَدْ أَنِسَ بِمَا مَعَهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ , وَالْأَذْكَارِ وَالْوَظَائِفِ , وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ قَبْلَ الْخَلْوَةِ لِيَعْبُدَ اللَّهَ عَلَى عِلْمٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . . , وَقَدْ جَاءَ فِي مَدْحِ الْعُزْلَةِ عِدَّةُ أَخْبَارٍ , عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ , وَجُمْلَةُ آثَارٍ , عَنْ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ , فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ غِذَاء رضي الله عنه قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ - وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا - يَتَّقِي اللَّهَ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ " . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِهِمَا بِلَفْظِ " أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إيمَانًا؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ , وَرَجُلٌ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ وَقَدْ كَفَى النَّاسَ شَرَّهُ " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إبِلِهِ , فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ , فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْت فِي إبِلِك وَغَنَمِك وَتَرَكْت النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ , فَضَرَبَهُ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: اُسْكُتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ " . قَالَ الْحَافِظُ غِذَاء: أَيْ الْغَنِيَّ النَّفْسِ الْقَنُوعَ . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ غِذَاء وَابْنُ غِذَاء فِي صَحِيحِهِ وَابْنُ حِبَّانَ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ , وَمَنْ عَادَ مَرِيضًا كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ , وَمَنْ دَخَلَ عَلَى إمَامٍ يُعَزِّرُهُ كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ , وَمَنْ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَغْتَبْ إنْسَانًا كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ " وَعِنْدَ غِذَاء " أَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَسَلِمَ النَّاسُ مِنْهُ وَسَلِمَ هُوَ مِنْ النَّاسِ " وَهُوَ عِنْدَ أَبِي غِذَاء بِنَحْوِهِ . وَرَوَاهُ غِذَاء أَيْضًا فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَلَفْظُهُ: قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " خِصَالٌ سِتٌّ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ إلَّا كَانَ ضَامِنًا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ , فَذَكَرَ مِنْهَا وَرَجُلٌ فِي بَيْتِهِ لَا يَغْتَابُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجُرُّ إلَيْهِمْ سَخَطًا وَلَا نِقْمَةً " . وَرَوَى أَيْضًا فِي الْأَوْسَطِ وَالصَّغِيرِ وَحَسَّنَ إسْنَادَهُ عَنْ غِذَاء قَالَ: رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " طُوبَى لِمَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ , وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ , وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ " . وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا غِذَاء عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ , وليسعك بَيْتُكَ , وَابْكِ عَلَى خطيئتك " . . وَرَوَى غِذَاء أَيْضًا بِإِسْنَادٍ مُقَارِبٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " مَنْ انْقَطَعَ إلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ كَلَّ مؤنه , وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ , وَمَنْ انْقَطَعَ إلَى الدُّنْيَا وَكَلَهُ اللَّهُ إلَيْهَا " . وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي الثَّوَابِ وَلَهُ شَوَاهِدُ . وَأَمَّا حَدِيثُ " السَّلَامَةُ فِي الْعُزْلَةِ " فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ صَحِيحًا فَلَيْسَ بِحَدِيثٍ . نَعَمْ قَالَ السَّخَاوِيُّ: أَسْنَدَ غِذَاء مَعْنَاهُ مسلسلا عَنْ أَبِي مُوسَى رَفَعَهُ " سَلَامَةُ الرَّجُلِ فِي الْفِتْنَةِ أَنْ يَلْزَمَ بَيْتَهُ " ثُمَّ سَاقَ قَوْلَ أَبِي حَيَّانَ رحمه الله تعالى: أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ الْإِينَاسِ بِالنَّاسِ لَمَّا غنيت عَنْ الْأَكْيَاسِ بالياس وصرت فِي الْبَيْتِ وَحْدِي لَا أَرَى أَحَدًا بَنَاتُ فِكْرِي وَكُتُبِي هُنَّ جُلَّاسِي وَقَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي الله عنه: خُذُوا حَظَّكُمْ مِنْ الْعُزْلَةِ . قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍ رضي الله عنه: وَاَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ بَابًا مِنْ حَدِيدٍ لَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ وَلَا أكلمه حَتَّى أَلْحَقَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَوْلَا مَخَافَةُ الْوِسْوَاسِ لدخلت إلَى بِلَادٍ لَا أَنِيسَ بِهَا , وَهَلْ يَفْسُدُ النَّاسُ إلَّا النَّاسَ . . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ غِذَاء: الْعُزْلَةُ عِبَادَةٌ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يُطِيلُ الصَّمْتَ وَيَهْرَبُ مِنْ النَّاسِ فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ فإنه يُلْقِي الْحِكْمَةَ وَأَوْصَى غِذَاء الطَّائِيُّ: فِرَّ مِنْ النَّاسِ كَمَا تَفِرُّ مِنْ الْأَسَدِ وَأَوْصَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رحمه الله تعالى بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا تُخَالِطَ فِي زَمَانِك هَذَا أَحَدًا فَافْعَلْ , وَلْيَكُنْ هَمُّك مَرَمَّةَ جِهَازِك , وَكَانَ يَقُولُ هَذَا زَمَانُ السُّكُوتِ وَلُزُومِ الْبَيْتِ . . وَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه يُحِبُّ الِانْفِرَادَ وَالْعُزْلَةَ مِنْ النَّاسِ , وَكَذَلِكَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ , وَسُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ , وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ الْخَوَاصِّ . . وَلَمَّا بَيَّنَ لَك هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الْعُزْلَةِ وَأَضْعَافِ أَضْعَافِهَا مِنْ الْفَوَائِدِ مِمَّا لَمْ يُنَبِّهُ عَلَيْهِ أَمَرَك بِهَا مُؤَكِّدًا لِمَا رَغَّبَ فِيهِ فَقَالَ:
فَكُنْ حِلْسَ بَيْتٍ فَهُوَ سِتْرٌ لِعَوْرَةٍ وَحِرْزُ الْفَتَى عَنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُفْسِدِ (فَكُنْ) أَيْ إنْ كُنْت فَهِمْت مَا أَشَرْتُ بِهِ إلَيْك , وَأَهْدَيْته عَلَيْك مِنْ هَذِهِ الْمَنَاقِبِ وَالْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ بِالِاخْتِلَاءِ عَنْ النَّاسِ , فَكُنْ أَنْتَ (حِلْسَ) أَيْ كُنْ فِي اخْتِلَائِك كَحِلْسِ (بَيْتٍ) لَا تُفَارِقْهُ وَلَا تَبْرَحْ عَنْهُ بَلْ الْزَمْهُ (فَهُوَ) أَيْ صَنِيعُك مِنْ لُزُومِك لِبَيْتِك (سِتْرٌ لِعَوْرَةٍ) وَهِيَ كُلُّ مَا يُسْتَحَى مِنْهُ إذَا ظَهَرَ . . قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَكُلُّ عَيْبٍ وَخَلَلٍ فِي الشَّيْءِ فَهُوَ عَوْرَةٌ , وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا . وَأَشَارَ بِهَذَا إلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مَكْحُولٍ مُرْسَلًا قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ وَلَكِنْ لَهَا أَشْرَاطٌ وَتَقَارُبُ أَسْوَاقٍ , قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقَارُبُ أَسْوَاقِهَا؟ قَالَ كَسَادُهَا وَمَطَرٌ وَلَا نَبَاتَ , وَأَنْ تَفْشُوَ الْغَيْبَةُ , وَتَكْثُرَ أَوْلَادُ الْبَغِيَّةِ , وَأَنْ يُعَظَّمَ رَبُّ الْمَالِ , وَأَنْ تَعْلُوَ أَصْوَاتُ الْفَسَقَةِ فِي الْمَسَاجِدِ , وَأَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ الْمُنْكَرِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ . قَالَ رَجُلٌ فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ فِرَّ بِدِينِك وَكُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك " . وَرَوَى أَبُو غِذَاء عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ , يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا , وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا , الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ , وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي , وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي . قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ " قَالَ الْحَافِظُ غِذَاء: الْحِلْسُ هُوَ الْكِسَاءُ الَّذِي يَلِي ظَهْرَ الْبَعِيرِ تَحْتَ الْقَتَبِ , يَعْنِي الْزَمُوا بُيُوتَكُمْ فِي الْفِتَنِ كَلُزُومِ الْحِلْسِ لِظَهْرِ الدَّابَّةِ , انْتَهَى . وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ فِي قَوْلِهِ تُلْبَسُ شَرُّ أَحْلَاسِهَا أَيْ دَنِيءُ ثِيَابِهَا , وَأَصْلُهُ مِنْ الْحِلْسِ وَهُوَ كِسَاءٌ أَوْ لِبْدٌ يُجْعَلُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ تَحْتَ الْقَتَبِ يُلَازِمُهُ . قَالَ: وَمِنْهُ يُقَالُ فُلَانٌ حِلْسُ بَيْتِهِ أَيْ مُلَازِمُهُ , وَنَحْنُ أَحْلَاسُ الْخَيْلِ أَيْ الْمُلَازِمُونَ لِظُهُورِهَا . وَمِنْهُ فِي إسْلَامِ عُمَرَ رضي الله عنه: وَلُحُوقِهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا أَيْ رُكُوبِهَا إيَّاهَا , انْتَهَى . وَفِي الْقَامُوسِ: الْحِلْسُ بِالْكَسْرِ كِسَاءٌ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ تَحْتَ الْبَرْدَعَةِ وَيُبْسَطُ فِي الْبَيْتِ تَحْتَ حَرِّ الثِّيَابِ , وَيُحَرَّكُ وَيُجْمَعُ عَلَى أَحْلَاسَ وَحُلُوسٍ وَحِلَسَةٍ . قَالَ وَهُوَ حِلْسُ بَيْتِهِ إذَا لَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ , انْتَهَى . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه لِأَصْحَابِهِ: كُونُوا يَنَابِيعَ الْحُكْمِ , مَصَابِيحَ الْحِكْمَةِ سُرُجَ اللَّيْلِ جُدُدَ الْقُلُوبِ أَحْلَاسَ الْبُيُوتِ , خُلْقَانَ الثِّيَابِ , تُعْرَفُونَ فِي السَّمَاءِ وَتُخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ , كَمَا فِي شَرْحِ الْإِسْلَامِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ غِذَاء: (وَ) هُوَ أَيْ لُزُومُ الْبَيْتِ (حِرْزُ الْفَتَى) أَيْ حِصْنٌ حَصِينٌ . يُقَالُ حِرْزٌ حَرِيزٌ أَيْ مَنِيعٌ (عَنْ كُلِّ) شَخْصٍ (غَاوٍ) أَيْ ضَالٍّ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى يُقَالُ غَوَى يَغْوِي غَيًّا وَغَوَى غَوَايَةً وَلَا يُكْسَرُ فَهُوَ غَاوٍ وَغَوِيٌّ وغيان (وَ) عَنْ كُلِّ (مُفْسِدٍ) لِدِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَقَلْبِهِ وَعَقِيدَتِهِ , يُقَالُ فَسَدَ غِذَاء وَعَقَدَ وَكَرُمَ فَسَادًا وفسودا ضِدُّ صَلَحَ فَهُوَ فَاسِدٌ .
تُفِيدُهُ عُلُومًا وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ كُتُبٌ تُفِيدُهُ عُلُومًا وَآدَابًا كَعَقْلٍ مُؤَيَّدٍ (وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ) الْعَالِمِ (كُتُبٌ) جَمْعُ كِتَابٍ وَإِسْنَادُ الْجُلُوسِ إلَيْهَا مَجَازٌ (تُفِيدُهُ) بِمُطَالَعَتِهِ فِيهَا وَإِمْعَانِ نَظَرِهِ وَسَبْرِهِ لَهَا (عُلُومًا) جَمْعُ عِلْمٍ , وَحَدُّهُ صِفَةٌ يُمَيِّزُ الْمُتَّصِفُ بِهَا بَيْنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ , وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ تَمْيِيزًا جَازِمًا مُطَابِقًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ (وَ) تُفِيدُهُ الْكُتُبُ أَيْضًا (آدَابًا) جَمْعُ أَدَبٍ وَهُوَ الظرف وَحُسْنُ التَّنَاوُلِ , يُقَالُ أَدَبٌ كَحُسْنٍ فَهُوَ أَدِيبٌ (كَعَقْلٍ مُؤَيَّدِ) أَيْ كَمَا تُفِيدُهُ الْكُتُبُ أَيْضًا بِمُطَالَعَتِهَا وَلُزُومِ التَّفْهِيمِ فِي مَعَانِيهَا عَقْلًا . وَفِي نُسْخَةٍ وَعَقْلِ مُؤَيَّدِ بِإِضَافَةِ الْعَقْلِ إلَى مُؤَيَّدِ , أَيْ عَقْلِ رَجُلٍ مُؤَيَّدٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ وَالتَّحْقِيقِ , وَالْإِلْهَامِ وَالتَّدْقِيقِ , وَالْإِصَابَةِ فِي الْأُمُورِ , وَمُجَانَبَةِ الْمَحْظُورِ . . وَالْعَقْلُ هُوَ الْعِلْمُ بِصِفَاتِ الْأَشْيَاءِ مِنْ حُسْنِهَا وَقُبْحِهَا وَكَمَالِهَا وَنُقْصَانِهَا , أَوْ الْعِلْمُ بِخَيْرِ الْخَيْرَيْنِ , أَوْ شَرِّ الشَّرَّيْنِ , أَوْ مُطْلَقِ الْأُمُورِ لِقُوَّةٍ بِهَا يَكُونُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْقَبِيحِ وَالْحَسَنِ , وَالْحَقُّ أَنَّهُ نُورٌ رُوحَانِيٌّ بِهِ تُدْرِكُ النَّفْسُ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ وَالنَّظَرِيَّةَ , وَابْتِدَاءُ وُجُودِهِ عِنْدَ اجْتِنَانِ الْوَلَدِ , ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْمُو إلَى أَنْ يَكْمُلَ عِنْدَ الْبُلُوغِ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَقَالَ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ التَّحْرِيرِ: الْعَقْلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَيْزُ , وَهُوَ غَرِيزَةٌ نَصًّا لَيْسَ بِمُكْتَسَبٍ , بَلْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَارِقُ بِهِ الْإِنْسَانُ الْبَهِيمَةَ , وَيَسْتَعِدُّ بِهِ لِقَبُولِ الْعِلْمِ وَتَدْبِيرِ الصَّنَائِعِ الْفِكْرِيَّةِ , فَكَأَنَّهُ نُورٌ يُقْذَفُ فِي الْقَلْبِ كَالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ البربهاري مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ وَلَا اكْتِسَابٍ , وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن غِذَاء: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ الْقُوَّةُ الْمُدْرِكَةُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , وَهُوَ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْأَكْثَرُ . وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ غِذَاء وَابْنُ الصَّيَّاغِ وَسُلَيْمٌ غِذَاء فَخَرَجَتْ الْعُلُومُ الكسبية ; لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ عَاقِلًا مَعَ انْتِقَاءِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ , وَإِنَّمَا قَالُوا بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُهَا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْعِلْمِ بِالْمُدْرِكَاتِ لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا غَيْرَ عَاقِلٍ , وَمَحَلُّ الْعَقْلِ الْقَلْبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْأَطِبَّاءِ , وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْقَلْبِ . نَعَمْ لَهُ اتِّصَالٌ بِالدِّمَاغِ كَمَا قَالَهُ التَّمِيمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ والطوفي مِنَّا: هُوَ فِي الدِّمَاغِ . وَقِيلَ إنْ قُلْنَا جَوْهَرٌ وَإِلَّا فَهُوَ فِي الْقَلْبِ . وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ كَالْمُدْرِكِ بِهِ ; لِأَنَّا نُشَاهِدُ قَطْعًا آثَارَ الْعُقُولِ فِي الْآرَاءِ وَالْحِكَمِ وَالْحِيَلِ وَغَيْرِهَا مُتَفَاوِتَةً , وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَفَاوُتِ الْعُقُولِ فِي نَفْسِهَا . وَأَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ أَعْقَلُ مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَكْمَلُ عَقْلًا , وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ مَا يُدْرَكُ بِهِ , وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلنِّسَاءِ " أَلَيْسَ شَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ مِثْلُ شَهَادَةِ نِصْفِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى , قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا " . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَالْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: الْعَقْلُ لَا يَخْتَلِفُ ; لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَامَّةٌ يَرْجِعُ إلَيْهَا النَّاسُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ , وَلَوْ تَفَاوَتَتْ الْعُقُولُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ , انْتَهَى وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . فَإِنْ قُلْت: قَدْ ذَكَرْت أَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ , فَمَا وَجْهُ قَوْلِ النَّاظِمِ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ مُطَالَعَةِ كُتُبِ الْعِلْمِ؟ قُلْت: الْعَقْلُ عَقْلَانِ , غَرِيزِيٌّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَزِيدُ وَلَا يَخْتَلِفُ , وَالثَّانِي تجربي يَخْتَلِفُ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّجْرِبَةِ , وَهَذَا ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ غِذَاء مِنَّا وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ وَمُخْتَصَرِهِ , وَقَالَهُ غِذَاء مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُ النَّاظِمِ مُؤَيَّدُ . النُّسَخُ الَّتِي رَأَيْتهَا بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ الدَّائِمِ الْمُسْتَمِرِّ , وَالصَّوَابُ أَنَّهُ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ مِنْ أيدته تَأْيِيدًا قَوَّيْته تَقْوِيَةً . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَوَّحَ اللَّهِ رُوحَهُ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ غِذَاء قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: إنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةَ , يَعْنِي الْكُتُبَ . قَالَ وَقَالَ لِي مَرَّةً: مَا يَصْنَعُ أَعْدَائِي بِي أَنَا جَنَّتِي وَبُسْتَانِي فِي صَدْرِي أَيْنَ رُحْت فَهِيَ مَعِي لَا تُفَارِقُنِي , أَنَا حَبْسِي خَلْوَةٌ , وَقَتْلِي شَهَادَةٌ , وَإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سِيَاحَةٌ . وَقَالَ لِي مَرَّةً: الْمَحْبُوسُ مَنْ حُبِسَ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ , وَالْمَأْسُورُ مَنْ أَسَرَهُ هَوَاهُ . قَالَ وَعَلِمَ اللَّهُ مَا رَأَيْت أَحَدًا أَطْيَبُ عَيْشًا مِنْهُ قَطُّ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ وَخَلَاقِ الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّعِيمِ بَلْ ضِدِّهَا مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَبْسِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْإِرْجَافِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَطْيَبُ النَّاسِ عَيْشًا وأشرحهم صَدْرًا , وَأَقْوَاهُمْ قَلْبًا وَأَسَرُّهُمْ نَفْسًا تَلُوحُ نَضِرَةُ النَّعِيمِ عَلَى وَجْهِهِ قَالَ: وَكُنَّا إذَا اشْتَدَّ بِنَا الْخَوْفُ وَسَاءَتْ مِنَّا الظُّنُونُ وَضَاقَتْ بِنَا الْأَرْضُ أَتَيْنَاهُ فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ نَرَاهُ وَنَسْمَعَ كَلَامَهُ فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ , وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً , فَسُبْحَانَ مَنْ أَشْهَدَ عِبَادَهُ جَنَّتَهُ قَبْلَ لِقَائِهِ وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَهَا فِي دَارِ الْعَمَلِ فَأَتَاهُ مِنْ رُوحِهَا وَنَسِيمِهَا وَطِيبِهَا مَا استفرغ قُوَاهُمْ لِطَلَبِهَا وَالْمُسَابَقَةِ إلَيْهَا .
|